فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والحياة أشرف من الموت، وأيضًا فنضج الثمار متعلق بالحرارة، وأيضًا فسن النمو من النبات لما كان وقت كمال الحرارة كان غاية كمال الحيوان حاصلًا في هذين الوقتين، وأما وقت الشيخوخة، فهو وقت البرد واليبس المناسب للأرضية، لا جرم كان هذا الوقت أردأ أوقات عمر الإنسان، فأما بيان أن المخلوق من الأفضل أفضل فظاهر، لأن شرف الأصول يوجب شرف الفروع.
وأما بيان أن الأشرف لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدون فلأنه قد تقرر في العقول أن من أمر أبا حنيفة والشافعي وسائر أكابر الفقهاء بخدمة فقيه نازل الدرجة كان ذلك قبيحًا في العقول، فهذا هو تقرير لشبهة إبليس.
فنقول: هذه الشبهة مركبة من مقدمات ثلاثة.
أولها: أن النار أفضل من التراب، فهذا قد تكلمنا فيه في سورة البقرة.
وأما المقدمة الثانية: وهي أن من كانت مادته أفضل فصورته أفضل، فهذا هو محل النزاع والبحث، لأنه لما كانت الفضيلة عطية من الله ابتداء لم يلزم من فضيلة المادة فضيلة الصورة.
ألا ترى أنه يخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر، والنور من الظلمة والظلمة من النور، وذلك يدل على أن الفضيلة لا تحصل إلا بفضل الله تعالى لا بسبب فضيلة الأصل والجوهر.
وأيضًا التكليف إنما يتناول الحي بعد انتهائه إلى حد كمال العقل، فالمعتبر بما انتهى إليه لا بما خلق منه، وأيضًا فالفضل إنما يكون بالأعمال وما يتصل بها لا بسبب المادة.
ألا ترى أن الحبشي المؤمن مفضل على القرشي الكافر.
المسألة السادسة:
احتج من قال: أنه لا يجوز تخصيص عموم النص بالقياس بأنه لو كان تخصيص عموم النص بالقياس جائزًا لما استوجب إبليس هذا الذم الشديد والتوبيخ العظيم، ولما حصل ذلك دل على أن تخصيص عموم النص بالقياس لا يجوز، وبيان الملازمة أن قوله تعالى للملائكة: {اسجدوا لأَدَمَ} [الأعراف: 11] خطاب عام يتناول جميع الملائكة.
ثم إن إبليس أخرج نفسه من هذا العموم بالقياس.
وهو أنه مخلوق من النار والنار أشرف من الطين، ومن كان أصله أشرف فهو أشرف، فيلزم كون إبليس أشرف من آدم عليه السلام، ومن كان أشرف من غيره، فإنه لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدون الأدنى.
والدليل عليه أن هذا الحكم ثابت في جميع النظائر، ولا معنى للقياس إلا ذلك، فثبت أن إبليس ما عمل في هذه الواقعة شيئًا إلا أنه خصص عموم قوله تعالى للملائكة: {اسجدوا لأَدَمَ} بهذا القياس، فلو كان تخصيص النص بالقياس جائزًا لوجب أن لا يستحق إبليس الذم على هذا العمل: وحيث استحق الذم الشديد عليه، علمنا أن تخصيص النص بالقياس لا يجوز، وأيضًا ففي الآية دلالة على صحة هذه المسألة من وجه آخر، وذلك لأن إبليس لما ذكر هذا القياس قال تعالى: {اهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} [الأَعراف: 13] فوصف تعالى إبليس بكونه متكبرًا بعد أن حكى عنه ذلك القياس الذي يوجب تخصيص النص، وهذا يقتضي أن من حاول تخصيص عموم النص بالقياس تكبر على الله، ولما دلت هذه الآية على أن تخصيص عموم النص بالقياس تكبر على الله، ودلت هذه الآية على أن التكبر على الله يوجب العقاب الشديد والإخراج من زمرة الأولياء والإدخال في زمرة الملعونين، ثبت أن تخصيص النص بالقياس لا يجوز.
وهذا هو المراد مما نقله الواحدي في البسيط، عن ابن عباس أنه قال: كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس، فعصى ربه وقاس، وأول من قاس إبليس، فكفر بقياسه، فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله مع إبليس.
هذا جملة الألفاظ التي نقلها الواحدي في البسيط عن ابن عباس.
فإن قيل: القياس الذي يبطل النص بالكلية باطل.
أما القياس الذي يخصص النص في بعض الصور فلم قلتم أنه باطل؟ وتقريره أنه لو قبح أمر من كان مخلوقًا من النار بالسجود لمن كان مخلوقًا من الأرض، لكان قبح أمر من كان مخلوقًا من النور المحض بالسجود لمن كان مخلوقًا من الأرض أولى وأقوى، لأن النور أشرف من النار، وهذا القياس يقتضي أن يقبح أمر أحد من الملائكة بالسجود لآدم، فهذا القياس يقتضي رفع مدلول النص بالكلية وأنه باطل.
وأما القياس الذي يقتضي تخصيص مدلول النص العام، لم قلتم: إنه باطل؟ فهذا سؤال حسن أوردته على هذه الطريقة وما رأيت أحدًا ذكر هذا السؤال ويمكن أن يجاب عنه، فيقال: إن كونه أشرف من غيره يقتضي قبح أمر من لا يرضى أن يلجأ إلى خدمة الأدنى الأدون، أما لو رضي ذلك الشريف بتلك الخدمة لم يقبح، لأنه لا اعتراض عليه في أنه يسقط حق نفسه، أما الملائكة فقد رضوا بذلك، فلا بأس به، وأما إبليس فإنه لم يرض بإسقاط هذا الحق، فوجب أن يقبح أمره بذلك السجود، فهذا قياس مناسب، وأنه يوجب تخصيص النص ولا يوجب رفعه بالكلية ولا إبطاله فلو كان تخصيص النص بالقياس جائزًا، لما استوجب الذم العظيم، فلما استوجب استحقاق هذا الذم العظيم في حقه علمنا أن ذلك إنما كان لأجل أن تخصيص النص بالقياس غير جائز. والله أعلم.
المسألة السابعة:
قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} لا شك أن قائل هذا القول هو الله لأن قوله: {إِذْ أَمَرْتُكَ} لا يليق إلا بالله سبحانه.
وأما قوله: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ} فلا شك أن قائل هذا القول هو إبليس. اهـ.

.قال السمرقندي:

{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} يعني: أن تسجد ولا زيادة.
ومعناه: ما منعك عن السجود إذ أمرتك بالسجود لآدم {قَالَ} إبليس عليه اللعنة: إنما لم أسجد لأنّي {أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} أي هذا الذي منعني عن السجود.
فاشتغل اللعين بالقياس والقياس في موضع النص باطل، لأنه لما أقرّ بأنه هو الذي خلقه.
فقد أقرّ بأن عليه واجب وعليه أن يأتمر بأمره.
ومع ذلك لو كان القياس جائزًا في موضع النص، فإن قياسه فاسدًا، لأنّ الطين أفضل من النار، لأنّ عامة الثمار والفواكه والحبوب تخرج من الطين، ولأن العمارة من الطين والنار للخراب. اهـ.

.قال الثعلبي:

{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} قال بعضهم: لا زائدة وإن صلة تقدير الكلام: ما منعك السجود لآدم، لأن المنع يتعدّى إلى مفعولين قال الله عزّ وجلّ: {وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95].
قال الشاعر:
ويلحينني في اللهو أن لا أحبه ** وللهو داع دائب غير غافل

أراد: أن أُحبُّة.
وقال آخر:
فما ألوم البيض أن لا تسخروا ** لما رأيتي الشمط القفندرا

وقال آخر:
أبى جوده لا البخل واستعجلت به ** نعم الفتى لا يمنع الجود قاتله

أراد: أبى جوده البخل.
سمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا الهيثم الجهني يحكي عن أحمد بن يحيى ثعلب قال: كان بعضهم يكره القالا، وتناول في المنع بمعنى القول، لأن القول والفعل يمنعان، وتقديره: من قال لك لا تسجد. قال بعضهم: معنى المنع الحول بين المرء وما يريد. والممنوع مضطر إلى خلاف ما منع منه فكأنّه قال: أي شيء اضطرّك إلى أن لا تسجد.
{إِذْ أَمَرْتُكَ} قال إبليس مجيبًا له {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ} لأنّك {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ} والنار خير وأفضل واصفى وأنور من الطين قال ابن عباس: أوّل مَنْ قاس إبليس. فأخطأ القياس فمَنْ قاس الدين بشيء من رأيه قرنه مع إبليس.
وقال ابن سيرين: أوّل مَنْ قاس إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلاّ بالمقاييس.
وقالت الحكماء: أخطأ عدو الله حين فضّل النار على الطين، لأن الطين أفضل من النار من وجوه:
أحدها: إنّ من جوهر الطين الرزانة والسكون والوقار والاناة والحُلم والحياء والصبر، وذلك هو الداعي لآدم في السعادة التي سبقت له إلى التوبة والتواضع والتضرّع وأدرته المغفرة والاجتباء والهداية والتوبة ومن جوهر النار الخفّة والطيش والحدّة والارتفاع والاضطراب، وذلك الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سيقت له إلى الاستكبار والإصرار فأدركه الهلاك والعذاب واللعنة والشقاق.
والثاني: أنّ الطين سبب جمع الأشياء والنار سبب تفريقها.
والثالث: أن الخبر ناطق بأن تراب الجنّة مسك أذفر ولم ينطق الخبر بأن في الجنة نارًا وفي النار ترابًا.
والرابع: أن النار سبب العذاب وهي عذاب الله لأعدائه وليس التراب سببًا للعذاب.
والخامس: أنّ الطين يُسقى من النار والنار محتاجة إلى المكان ومكانها التراب. اهـ.

.قال ابن عطية:

{ما} استفهام والمقصود به التوبيخ والتقريع، و{لا} في قوله أن لا قيل هي زائدة، والمعنى ما منعك أن تسجد وهي ك لا في قول الشاعر: [الطويل]
أبى جودُه لا البخلَ واسْعْجَلَتْ به ** نَعَمْ من فتى لا يمنعُ الجود قاتله

وهذا على أحد الأقوال في هذا البيت فقيل لا فيه زائدة. وقال الزجّاج: مفعولة والبخل بدل منها، وحكى الطبري عن يونس عن أبي عمرو بن العلاء: أن الرواية فيه لا البخل بخفض اللام لأن لا قد تتضمن جودًا إذا قالها من أمر بمنع الحقوق والبخل عن الواجبات. ومن الأبيات التي جاءت لا فيها زائدة قول الشاعر: [الكامل]
افَعَنْكِ لا بَرْق كأنّ وميضه ** غاب تسنمه ضرام مثقبُ

وقيل في الآية ليست لا زائدة، وإنما المعنى ما منعك فأحوجك أن تسجد، وقيل: لما كان {ما منعك} بمعنى من أمرك ومن قال لك حسن أن يقول بعدها {ألا تسجد}.
قال القاضي أبو محمد: وجملة هذا الغرض أن يقدر في الكلام فعل يحسن حمل النفي عليه، كأنه قال ما أحوجك أو حملك أو اضطرك، وجواب إبليس اللعين ليس عما سئل عنه ولكنه جاء بكلام يتضمن الجواب والحجة عليه، فكأنه قال: منعني فضلي إذ أنا خير منه حين خلقتني من نار وخلقته من طين. وروي عن ابن عباس أنه قال: لا أسجد وأنا خير منه وأكبر سنًا وأقوى خلقًا، يقول إن النار أقوى من الطين وظن إبليس أن النار أفضل من الطين وليس كذلك بل هي في درجة واحدة من حيث هي جماد مخلوق، فلما ظن إبليس أن صعود النار وخفتها يقتضي فضلًا على سكون الطين وبلادته قاس أن ما خلق منها أفضل مما خلق في النار من الطيش والخفة والاضطراب، وفي الطين من الوقار والأناة والحمل والتثبيت.
قال القاضي أبو محمد: وفي كلام الطبري نظر، وروي عن الحسن وابن سيرين أنهما قالا: أول من قاس إبليس وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس.
قال القاضي أبو محمد: قال الطبري يعنيان الخطأ ولا دليل من لفظهما عليه ولا يتأول عليهما إنكار القياس، وإنما خرج كلامهما نهيًا عما كان في زمنهما من مقاييس الخوارج وغيرهم، فأرادا حمل الناس على الجادة. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ما منعك ألا تسجد}
ما استفهام: ومعناها: الإنكار.
قال الكسائي: لا هاهنا زائدة.